فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال الزمخشري: جمع نعمة على ترك التاء، والاعتداد بالتاء كدرع وأدرع.
وقال العقلاء: ثلاثة ليس لها نهاية: الأمن، والصحة والكفاية.
قال أبو عبد الله الرازي: أمنة إشارة إلى الأمن، مطمئنة إشارة إلى الصحة، لأن هواء ذلك لما كان ملازمًا لأمزجتهم اطمأنوا إليها واستقروا، يأتيها رزقها السبب في ذلك دعوة إبراهيم عليه السلام: {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات} وقال: الأنعم جمع نعمة وجمع قلة، ولم يأت بنعم الله وذلك أنه قصد التنبيه بالأدنى على الأعلى بمعنى أنّ كفران النعم القليلة أوجب العذاب، فكفران الكثيرة أولى بإيجابه.
قال ابن عطية: لما باشرهم ذلك صار كاللباس، وهذا كقول الأعشى:
إذا ما الضجيع ثنى جيدها ** تثنت فكانت عليه لباسا

ونحو قوله تعالى: {هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهن} ومنه قول الشاعر:
وقد لبست بعد الزبير مجاشع ** ثياب التي حاضت ولم تغسل الدما

كأن العار لما باشرهم ولصق بهم جعلهم لبسوه.
وقوله: {فأذاقها الله} نظير قوله: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} ونظير قول الشاعر:
دونك ما جنيته فاحس وذق

وقال الزمخشري: الإذاقة واللباس استعارتان، فما وجه صحتهما؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس فما وجه صحة إيقاعها؟ قلت: أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمس الناس منها فيقولون: ذاق فلان البؤس والضر، وإذاقة العذاب شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر والبشع.
وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس ما غشي الإنسان والتبس به من بعض الحوادث.
وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف فلأنه لما وقع عبارة: عما يغشى منهما ويلابس، فكأنه قيل: فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف، ولهم في نحو هذا طريقان: أحدهما: أن ينظروا فيه إلى المستعار له، كما نظر إليه ههنا، ونحوه قول كثير:
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكًا ** غلقت لضحكته رقاب المال

استعار الرداء للمعروف، لأنه يصون عرض صاحبه، صون الرداء لما يلقى عليه.
ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنوال، لا صفة الرداء، نظرًا إلى المستعار له.
والثاني: أن ينظروا فيه إلى المستعار كقوله:
ينازعني ردائي عبد عمرو ** رويدك يا أخا عمرو بن بكر

لي الشطر الذي ملكت يميني ** ودونك فاعتجر منه بشطر

أراد بردائه سيفه ثم قال: فاعتجر منه بشطر، فنظر إلى المستعار في لفظ: الاعتجار، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقيل: فكساهم لبس الجوع والخوف، ولقال كثير: ضافي الرداء إذا تبسم ضاحكًا انتهى.
وهو كلام حسن.
ولما تقدم ذكر الأمن وإتيان الرزق، قابلهما بالجوع الناشىء عن انقطاع الرزق وبالخوف.
وقدم الجوع ليلى المتأخر وهو إتيان الرزق كقوله: {يوم تبيضّ وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم} وأما قوله: {فمنهم شقي وسعيد} فأما الذين شقوا ففي النار فقدم ما بدىء به وهما طريقان.
وقرأ الجمهور: {والخوف} بالجرّ عطفًا على {الجوع}.
وروي العباس عن أبي عمرو: {والخوف} بالنصب عطفًا على {لباس}.
قال صاحب اللوامح: ويجوز أن يكون نصبه بإضمار فعل.
وقال الزمخشري: يجوز أن يكون على تقدير حذف المضاب وإقامة المضاف إليه مقامه، أصله ولباس الخوف.
وقرأ عبد الله {فأذاقها الله الخوف والجوع} ولا يذكر {لباس}.
والذي أقوله: إنّ هذا تفسير المعنى لا قراءة، لأن المنقول عنه مستفيضًا مثل ما في سواد المصحف.
وفي مصحف أبي بن كعب لباس الخوف والجوع، بدأ بمقابل ما بدأ به في قوله: {كانت آمنة} وهذا عندي إنما كان في مصحفه قبل أن يجمعوا ما في سواد المصحف الموجود الآن شرقًا وغربًا، ولذلك المستفيض عن أبي في القراءة إنما هو كقراءة الجماعة بما كانوا يصنعون من كفران نعم الله، ومنها تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاءهم.
والضمير في بما كانوا يصنعون عائد على المحذوف في قوله: {وضرب الله مثلًا قرية} أي: قصة أهل قرية، أعاد الضمير أولًا على لفظ قرية، ثم على المضاف المحذوف كقوله: {فجاءها بأسنا بياتًا أو هم قائلون} والظاهر أن الضمير في ولقد جاءهم، عائد على ما عاد عليه في قوله: {بما كانوا يصنعون}.
وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون الضمير في جاءهم لأهل تلك المدينة، يكون هذا بما جرى فيها كمدينة شعيب عليه السلام وغيره، ويحتمل أن يكون لأهل مكة. اهـ.

.قال أبو السعود:

{يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ}.
منصوب برحيم وما رُتِّب عليه، أو باذكر وهو يوم القيامة يوم يقوم الناسُ لرب العالمين {تجادل عَن نَّفْسِهَا} عن ذاتها تسعى في خلاصها بالاعتذار لا يُهِمّها شأنُ غيرها فتقول نفسي نفسي {وتوفى كُلُّ نَفْسٍ} أي تعطى وافيًا كاملًا {مَّا عَمِلَتْ} أي جزاء ما عملت بطريق إطلاقِ اسمِ السبب على المسبَّب إشعارًا بكمال الاتصالِ بين الأجزية والأعمال، وإيثارُ الإظهار على الإضمار لزيادة التقريرِ وللإيذان باختلاف وقتي المجادلةِ والتوفيةِ وإن كانتا في يوم واحد {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} لا يُنقَصون أجورَهم أو لا يعاقبون بغير موجب ولا يُزاد في عقابهم على ذنوبهم.
{وَضَرَبَ الله مَثَلًا قَرْيَةً} قيل: ضرْبُ المثل صنعُه واعتمالُه، وقد مرَّ تحقيقُه في سورة البقرة، ولا يتعدى إلا إلى مفعول واحدٍ وإنما عُدّيَ لاثنين لتضمينه معنى الجعْل، وتأخيرُ قريةً مع كونها مفعولًا أولًا لئلا يحولَ المفعولُ الثاني بينها وبين صفتِها وما يترتب عليها، إذ التأخيرُ عن الكل مُخِلٌّ بتجاذب أطرافِ النظم وتجاوبها، ولأن تأخيرَ ما حقُّه التقديمُ مما يورث النفسَ ترقبًا لوروده تشوقًا لاسيما إذا كان في المقدَّم ما يدعو إليه، فإن المثلَ مما يدعو إلى المحافظة على تفاصيل أحوالِ ما هو مثلٌ فيتمكن المؤخرُ عند ورودِه لديها فضلَ تمكنٍ، والقريةُ إما محققةٌ في الغابرين، وإما مقدرةٌ أي جعلها مثلًا لأهل مكةَ خاصةً، أو لكل قوم أنعم الله تعالى عليهم فأبطرتهم النعمةُ ففعلوا ما فعلوا فبدل الله تعالى بنعمتهم نقمةً ودخل فيهم أهلُ مكةَ دخولًا أوليًا {كَانَتْ ءامِنَةً} ذاتَ أمنٍ من كل مَخُوف {مُّطْمَئِنَّةً} لا يُزعج أهلَها مزعجٌ {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا} أقواتُ أهلها، صفةٌ ثانية لقريةً وتغييرُ سبكها عن الصفة الأولى لما أن إتيانَ رزقِها متجددٌ وكونَها آمنةً مطمئنةً ثابتٌ مستمرٌّ {رَغَدًا} واسعًا {مّن كُلّ مَكَانٍ} من نواحيها.
{فَكَفَرَتْ} أي كفرَ أهلُها {بِأَنْعُمِ الله} أي بنِعَمه، جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدِرع وأدرُع، أو جمع نُعْم كبؤس وأبؤس، والمراد بها نعمةُ الرزقِ والأمن المستمرِّ، وإيثارُ جمعِ القلةِ للإيذان بأن كفرانَ نعمةٍ قليلة حيث أوجب هذا العذابَ فما ظنك بكفران نِعمٍ كثيرة {فَأَذَاقَهَا الله} أي أذاق أهلها {لِبَاسَ الجوع والخوف} شُبِّه أثرُ الجوعِ والخوف وضررُهما المحيطُ بهم باللباس الغاشي للاّبس فاستُعير له اسمُه وأُوقِع عليه الإذاقةُ المستعارة لمطلق الإيصالِ المنبئةِ عن شدة الإصابةِ بما فيها من اجتماع إدراكَيْ اللامسةِ والذائقة على نهج التحرير، فإنها لشيوع استعمالِها في ذلك وكثرةِ جرَيانها على الألسنة جرت مجرى الحقيقةِ كقول كثيِّر:
غمْرُ الرداء إذا تبسم ضاحكا ** غلقت لضحكته رقابُ المال

فإن الغمْرَ مع كونه في الحقيقة من أحوال الماء الكثير لمّا كان كثيرَ الاستعمال في المعروف المشبَّهِ بالماء الكثير جرى مجرى الحقيقةِ فصارت إضافتُه إلى الرداء المستعارِ للمعروف تجريدًا. أو شبّه أثرُهما وضررُهما من حيث الإحاطةُ بهم والكراهةُ لديهم تارة باللباس الغاشي لِلاّبس المناسبِ للخوف بجامع الإحاطةِ واللزوم تشبيهَ معقولٍ بمحسوس فاستُعير له اسمُه استعارةً تصريحيةً، وأخرى بطعم المرِّ البشعِ الملائمِ للجوع الناشىءِ من فقد الرزق بجامع الكراهة، فأُوميَ إليه بأن أوقع عليه الإذاقةُ المستعارة لإيصال الضارِّ المنبئةُ عن شدة الإصابة بما فيها من اجتماع إدراكَيْ اللامسة والذائقة، وتقديمُ الجوعِ الناشىء مما ذكر من فقدان الرزقِ على الخوف المترتب على زوال الأمن المقدمِ فيما تقدم على إتيان الرزق لكونه أنسبَ بالإذاقة أو لمراعاةٍ بينها وبين إتيان الرزقِ، وقد قرئ بتقديم الخوفِ وبنصبه أيضًا عطفًا على المضاف، أو إقامةً له مُقامَ مضافٍ محذوف وأصله ولباسَ الخوف {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} فيما قبلُ أو على وجه الاستمرار وهو الكفرانُ المذكور أسند ذلك إلى أهل القريةِ تحقيقًا للأمر بعد إسنادِ الكفرانِ إليها وإيقاعِ الإذاقة عليها إرادةً للمبالغة، وفي صيغة الصنعة إيذانٌ بأن كفرانَ النعمة صار صنعةً راسخةً لهم وسنةً مسلوكة.
{وَلَقَدْ جَاءهُمْ}.
من تتمة المثَل، جيء بها لبيان أن ما فعلوه من كفران النعم لم يكن مزاحمةً منهم لقضية العقلِ فقط بل كان ذلك معارضةً لحجة الله على الخلق أيضًا، أي ولقد جاء أهلَ تلك القرية {رَسُولٌ مّنْهُمْ} أي من جنسهم يعرِفونه بأصله ونسبِه فأخبرهم بوجوب الشكرِ على النعمة وأنذرهم سوءَ عاقبة ما يأتون وما يذرون {فَكَذَّبُوهُ} في رسالته أو فيما أخبرهم به مما ذكر، فالفاء فصيحةٌ وعدم ذكرِه للإيذان بمفاجأتهم بالتكذيب من غير تلعثم {فَأَخَذَهُمُ العذاب} المستأصِلُ لشأفتهم غِبَّ ما ذاقوا نُبذةً من ذلك {وَهُمْ ظالمون} أي حالَ التباسهم بما هم عليه من الظلم الذي هو كفرانُ نعمِ الله تعالى وتكذيبُ رسوله غيرَ مُقلعين عنه بما ذاقوا من مقدماته الزاجرةِ عنه، وفيه دَلالةٌ على تماديهم في الكفر والعِناد وتجاوزِهم في ذلك كلَّ حدَ معتاد، وترتيبُ العذاب على تكذيب الرسول جرى على سنة الله تعالى حسبما يرشد إليه قوله سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا} وبه يتم التمثيلُ فإن حالَ أهل مكةَ سواء ضُرب المثلُ لهم خاصة أو لمن سار سيرتَهم كافةً محاذيةٌ لحال أهلِ تلك القريةِ حذوَ القذة بالقذة من غير تفاوت بينهما ولو في خصلة فَذّة، كيف لا وقد كانوا في حرم آمنٍ ويُتخطف الناسُ من حولهم وما يمر ببالهم طيفٌ من الخوف وكانت تجبى إليه ثمراتُ كل شيء، ولقد جاءهم رسولٌ منهم وأيُّ رسول، يحار في إدراك سموِّ رتبتِه العقولُ صلى الله عليه وسلم ما اختلف الدبور والقبور، فكفروا بأنعم الله وكذبوا رسوله عليه السلام فأذاقهم الله لباسَ الجوعِ والخوف حيث أصابهم بدعائه عليه السلام بقوله: «اللهمَّ أعِنِّي عليهم بسبْعٍ كسبع يوسفَ». ما أصابهم من جدب شديدٍ وأزمة خصّت كلَّ شيء حتى اضطرتهم إلى أكل الجِيف والكلابِ الميتة والعظامِ المحرقة والعلهز وهو الوبرُ المعالَجُ بالدم وقد ضاقت عليهم الأرضُ بما رحبت من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانوا يُغيرون على مواشيهم وعِيرهم وقوافلهم، ثم أخذهم يومَ بدرٍ ما أخذهم من العذاب.
هذا هو الذي يقتضيه المقام ويستدعيه حسنُ النظام، وأما ما أجمع عليه أكثرُ أهل التفسير من أن الضمير في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءهُمْ} لأهل مكةَ قد ذُكر حالُهم صريحًا بعد ما ذكر مَثلُهم وأن المرادَ بالرسول محمدٌ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وبالعذاب ما أصابهم من وقعة بدر فبمعزل من التحقيق، كيف لا وقوله سبحانه: {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} مفرّعٌ على نتيجة التمثيل وصدٌّ لهم عما يؤدّي إلى مثل عاقبته. اهـ.

.قال الألوسي:

{يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ}.
نصب على الظرفية ب {رحيم} [النحل: 110]، وقيل: على أنه مفعول به لأذكر محذوفًا، ورجح الأول بارتباط النظم عليه ومقابلته لقوله تعالى: {فِى الآخرة هُمُ الخاسرون} [النحل: 109]، ولا يضر تقييد الرحمة بذلك اليوم لأن الرحمة في غيره تثبت بالطريق الأولى، والمراد بهذا اليوم يوم القيامة {تجادل عَن نَّفْسِهَا} تدافع وتسعى في خلاصها بالاعتذار ولا يهمها شأن غيرها من ولد ووالد وقريب.
أخرج أحمد في الزهد وجماعة عن كعب قال: كنت عند عمر بن الخطاب فقال: خوفنا يا كعب فقلت: يا أمير المؤمنين أوليس فيكم كتاب الله تعالى وحكمة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى ولكن خوفنا قلت: يا أمير المؤمنين لو وافيت يوم القيامة بعمل سبعين نبيًا لازدرأت عملك مما ترى قال: زدنا قلت: يا أمير المؤمنين إن جهنم لتزفر زفرة يوم القيامة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل الآخر جاثيًا إلى ركبتيه حتى أن إبراهيم خليله ليخر جاثيًا على ركبتيه فيقول: رب نفسي نفسي لا أسألك اليوم إلا نفسي فأطرق عمر مليًا قلت: يا أمير المؤمنين أو ليس تجدون هذا في كتاب الله؟ قال: كيف؟ قلت: قول الله تعالى في هذه الآية: {يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ} إلخ.، وجعل بعضهم هذا القول هو الجدال ولم يرتضه ابن عطية، والحق أنه ليس فيه إلا الدلالة على عدم الاهتمام بشأن الغير وهو بغض ما تدل عليه الآية وعن ابن عباس أن هذه المجادلة بين الروح والجسد يقول الجسد: بك نطق لساني وأبصرت عيني ومشت رجلي ولولاك لكنت خشبة ملقاة وتقول الروح: أنت كسبت وعصيت لا أنا وأنت كنت الحامل وأنا المحمول فيقول الله تعالى أضرب لكما مثلًا أعمى حمل مقعدًا إلى بستان فأصابا من ثماره فالعذاب عليكما، والظاهر عدم صحة هذا عن هذا الحبر وهو أجل من أن يحمل المجادلة في الآية على ما ذكر.
وضمير {نَفْسَهَا} عائد على النفس الأولى فكأنه قيل: عن نفس النفس، وظاهره إضافة الشيء إلى نفسه، فوجه بأن النفس الأولى هي الذات والجملة أي الشخص بأجزائه كما في قولك، نفس كريمة ونفس مباركة، والثانية عينها أي التي تجري مجرى التأكيد ويدل على حقيقة الشيء وهويته بحسب المقام، والفرق بينهما أن الأجزاء ملاحظة في الأول دون الثاني، والأصل هو الثاني لكن لعدم المغايرة في الحقيقة بين الذات وصاحبها استعمل بمعنى الصاحب ثم أضيف الذات إليه، فوزان {كُلُّ نَفْسٍ} وزان قولك: كل أحد كذا في الكشف وفي الفرائد المغايرة شرط بين المضاف والمضاف إليه لامتناع النسبة بدون المنتسبين فلذلك قالوا: يمتنع إضافة الشيء إلى نفسه إلا أن المغايرة قبل الإضابة كافية وهي محققة هاهنا لأنه لا يلزم من مطلق النفس نفسك ويلزم من نفسك مطلق النفس فلما أضيف ما لا يلزم أن يكون نفسك إلى نفسك صحت الإضافة وإن اتحدا بعد الإضافة، ولذا جاز عين الشيء وكله ونفسه بخلاف أسد الليث وحبس المنع ونحوهما، وقال ابن عطية: النفس الأولى هي المعروفة والثانية هي البدن، وقال العسكري: الإنسان يسمى نفسًا تقول العرب: ما جاءني إلا نفس واحدة أي إنسان واحدة، والنفس في الحقيقة لا تأتي لأنها هي الشيء الذي يعيش به الإنسان فتأمل ففي النفس من بعض ما قالوه شيء، والظاهر أن السؤال والجواب المشهورين في كل رجل وضيعته يجريان هاهنا فتفطن.
وفي البحر إنما لم تجىء تجادل عنها بدل {تجادل عَن نَّفْسِهَا} لأن الفعل إذا لم يكن من باب ظن وفقد لا يتعدى ظاهرًا كان فاعله أو مضمرًا إلى ضميره المتصل فلا يقال.
ضربتها هند أو هند ضربتها وإنما يقال: ضربت نفسها هند وهند ضربت نفسه، وتأنيث {تَأْتِى} مع إسناده إلى {كُلٌّ} وهو مذكر لرعاية المعنى؛ وكذا يقال فيما بعد، وعلى ذلك جاء قوله:
جادت عليها كل عين ثمرة ** فتركن كل حديقة كالدرهم

{وتوفى كُلُّ نَفْسٍ} أي تعطي وافيًا كاملًا {مَّا عَمِلَتْ} أي جزاء عملها أو الذي عملته إن خيرًا فخيرًا وإن شرًا فشرًا بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب إشعارًا بكمال الاتصال بين الأجزية والأعمال، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير وللإيذان باختلاف وقتي المجادلة والتوفية وإن كانتا في يوم واحد.